في عام 1962 كان نزار قباني الدبلوماسي والشاعر السوري "الأربعيني" يتعافى من أزمات عصفت به فهو للتو فقد رفيقة حياته الأولى أم توفيق "زهراء الدمشقية" , ومن بعدها أبنه توفيق الذي مات وهو في ريعان الشباب بعد عملية جراحية أما أبنته الوحيدة " هدباء " قد تزوجت وأنتقلت لتعيش مع زوجها في الخارج.
يقول أهل الصين في حكمة عظيمة أن من أعظم نائبات الحياة التي تصيب الرجل
في طفولته ... يفقد أمه
وفي شبابه .... يفقد أباه
وفي رجولته .... يفقد زوجه
وفي كهولته يفقد .... ولده
فكيف بحال شاعرنا الدبلوماسي المرهف حيث رزيء بمصيبتين فقد الزوجة وفقد الولد.
يقول الدكتور محسن بن سليمان العطيات العطوي لكن الأقدار ساقت نزار للمشاركة في مهرجان شعري في بغداد صيف عام 1963 وهناك وبينما هو يشدو بقصيدته وقعت عيناه على فتاة عراقية كانت في العشرينات من عمرها فوقعت في قلبه وتعلق بها يقول أهل فارس (حب النظرة الأولى ... حب مجنون)
ما ان أنتهى نزار من قصيدته وغادر منصة الشعر حتى أخذ يسأل بعض الحضور عنها ، فقال له أحدهم أنها الآنسة (بلقيس الراوي) بل ودّله على بيت أهلها في (أعظمية) بغداد فتقدم لخطبتها من أبيها على الفور ، فلم يوافق ، فغادر نزار العراق حزيناً إلى فرنسا حيث كان يعمل دبلوماسيا في السفارة السورية هناك.
يقول العطيات أن صورة بلقيس ما كانت لتغادر قلب نزار أو وجدانه وأنه وبعد بضع سنوات (1973) دُعي نزار مرة أخرى إلى العراق ليشارك هذه المرة في مهرجان (المربد) الشعري الشهير وهناك ألقى قصيدة أثارت شجون الحضور :
مرحباً يا عراقُ، جئت أغنيك وبعـضٌ من الغناء بكاءُ
مرحباً، مرحباً.. أتعرف وجهاً حفرته الأيام والأنواءُ؟
أكل الحب من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتها النساء
سكن الحزن كالعصافير قلبي فالأسى خمرةٌ وقلبي الإناءُ
أنا جرحٌ يمشي على قدميه وخيولي قد هدها الإعياءُ
فجراح الحسين بعض جراحي وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحزن من زمانٍ صديقي وقليـلٌ في عصرنا الأصدقاءُ
كيف أحبابنا على ضفة النهر وكيف البسـاط والنـدماءُ؟
كان عندي هـنا أميرة حبٍ ثم ضاعت أميرتي الحسـناءُ
أين وجهٌ في (الأعظمية) حلوٌ ، لو رأته تغار منه السـماءُ؟
يقول العطيات ومن البيت الأخير علم بعض الحضور أنه يقصد بلقيس فمرور كل هذه السنوات لم تنجح في محوها من قلبه وعقله وكان من الحضور وزير الخارجية العراقي الشاعر والأديب (شفيق الكمالي) والذي أخبر الرئيس العراقي حسن البكر بأن زميله الدبلوماسي والشاعر السوري نزار قباني (ضيف العراق) رغب منذ سنوات في الزواج من فتاة عراقية تدعى بلقيس الراوي لكن والدها رفض . فما كان من الرئيس الشهم الأ أن أمر بـ(جاهة) عشائرية لخطبتها من أبيها وضمت الجاهة العديد من الوزراء والأدباء والأعيان تطلب يد بلقيس من أهلها وعشيرتها فتم له ذلك فأنتقلت معه للعيش في بيروت وكانت موظفة في السفارة العراقية.
يقول العطيات وكانت بلقيس العراقية ملهمة حياته و فجرت فيه ينابيع قصائد الحب والحياة لسنوات تلت
ولكن وفي يوم 15 ديسمبر 1981 أتاه من يخبره أن السفارة العراقية تعرضت لهجوم أنتحاري مدمر اقتلعها من مكانها فهب نزارجزعا هلعا لا يلوي على شيء وحينما وصل للسفارة أخبروه بأن من نجى من التفجير الآثم يعدون عدد أصابع اليد الواحدة وأن الأسعاف أخذهم لمستشفى قريب . عدد القتلى كثير تجاوز 100 موظف ومراجع وعابر طريق وعدد الأحياء قليل جدا ولم تكن منهم بلقيس
كان رحيل زوجته أو بالأحرى (حبيبته) من أطلق موجة أخرى قريحته الشعرية مغايرة للموجة الأولى فأخذ نزار ينظر للحياة بمنظار سوداوي وما فتيء يرثي حبيبته بلقيس بل أنه قال فيها أطول قصيدة في الرثاء:
شكرا لكم
شكرا لكم
فحبيبتي قتلت
وصار بوسعكم
أن تشربوا كاسا على قبر الشهيدة
وقصيدتي أغتيلت
وهل من أمة في الارض ـ الا نحن ـ
تغتال القصيدة ؟
بلقيس...
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت اذا تمشي
ترافقها طواويس
وتتبعها أيائل
بلقيس
يا وجعي
وياوجع القصيده حين تلمسها الأنامل
ياهل ترى من بعد شعرك
هل سترتفع السنابل ؟
يانينوى الخضراء
ياغجريتي الشقراء
يا أمواج دجلة
تلبس في الربيع بساقها
أحلى الخلاخل
بلقيس
لقد قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية تلك التي
تغتال أصوات البلابل ؟
أين السموأل ؟
والمهلهل ؟
والغطاريف الاوائل ؟
فقبائل أكلت قبائل
وثعالب قتلت ثعالب
وعناكب قتلت عناكب
سأقول ، يا قمري ،
عن العرب العجائب
فهل البطولة كذبة عربية ؟
أم مثلنا التاريخ كاذب ؟
بلقيس
ياعصفورتي الأحلى
ويا أيقونتي الأغلى
ويادمعا تناثر فوق خد المجدلية
أترى ظلمتك أذ نقلتك
ذات يوم من ضفاف الأعظمية
بلقيس
بيروت تقتل كل يوم واحد منا
وتبحث كل يوم عن ضحية
والموت في فنجان قهوتنا
وفي مفتاح شقتنا
وفي أزهار شرفتنا
وفي أوراق الجرائد
والحروف الأبجدية
بلقيس
كيف تركتنا في الريح
نرجف مثل أوراق الشجر ؟
وتركتنا ـ نحن الثلاثة ـ ضائعين
كريشة تحت المطر
أتراك ما فكرت بي ؟
وأنا الذي يحتاج حبك مثل (زينب) أو (عمر)
بلقيس
هذا موعد الشاي العراقي المعطر
و المعتق كالسلافة
فمن الذي سيوزع الأقداح؟
و من الذي سيقبل الأولاد عند رجوعهم؟
و من الذي نقل الفرات لبيتنا ؟
و ورود دجلة و الرصافة !!
======